لتحليل الأدبي لرحلة الحرب في رواية “جنود السلطان الأخير” للروائي العراقي رعد أبو الطين الحلي
قراءة / حمدي العطار
المقدمة:
تمثل الرواية التاريخية مساحة سردية خصبة تمزج بين الخيال والوقائع، وتعيد تشكيل الأحداث من زاوية إنسانية وفكرية تسلط الضوء على معاناة الفرد في قلب تحولات كبرى. وفي هذا السياق، يقدّم الروائي العراقي المغترب “رعد أبو الطين الحلي” روايته (جنود السلطان الأخير)، التي تستلهم جزءًا من التاريخ العثماني، من خلال رحلة جندي عراقي زُجّ في أتون الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا. تستعرض هذه القراءة جانب “الرحلة” بوصفها محورًا سرديًا يمثل مأساة الجندي والإنسان وسط عبثية الحرب وقسوة الطبيعة والنظام.
*المتن المعاد صياغته:
يعتمد الروائي رعد الحلي في أعماله ذات الطابع التاريخي الحديث على قراءة خاصة للنصوص التاريخية، يستند فيها إلى البنية الاجتماعية والعادات والتقاليد الشعبية، دون التزام صارم بحرفية الوثائق التاريخية. وهذا واضح من تصنيفه لروايته على أنها “رواية” لا “توثيقًا”، ما يمنحه مساحة تخييلية واسعة تغطي نحو 70% من السرد، بينما يظل 30% مستندًا إلى وقائع واقعية، يكفي أن تقنع القارئ بمنطقيتها.
صدرت جنود السلطان الأخير عن دار السرد عام 2025، وتقع في 432 صفحة من القطع الكبير، موزعة على اثني عشر فصلًا. تحكي الرواية قصة جندي عراقي يُجند في الجيش العثماني، ويُقتاد من قريته إلى إسطنبول، ومنها إلى الحدود الروسية للمشاركة في حرب القرم، وذلك عبر رحلة طويلة ومضنية، تتنقل بين وسائل النقل المختلفة، وتنتهي بمعاناة هائلة.
*عتبة العنوان والغلاف:
يعكس الغلاف نهاية رحلة الحرب، حيث يظهر ثلاثة جنود معاقين: رمضان، الجندي العراقي من كركوك، ومختار نعمة السارد الأعمى، وحارس الجندي المصري المريض. ترافق الرواية رحلة هؤلاء الثلاثة في طريق العودة من الحدود الروسية إلى إسطنبول، لكن وحده مختار يصل إلى قريته في النهاية، بعد أن يموت رفيقاه خلال الرحلة.
تُختزل الخسارة الكبيرة في جملة واحدة مؤثرة:
“مات الرجل المريض، الدولة العثمانية، لكن لن يدفنوه… انتصرت حضارة الأسلحة، وخسرنا. من المستحيل أن تنتصر وأنت تحارب بسلاح عدوك.” (ص 424)
*السيرة الروائية:
تبدأ الرواية بتصدير يشير إلى أن الحكاية مستوحاة من قصة حقيقية لرئيس وزراء العراق الأسبق نوري السعيد، الذي اضطر للعودة مشيًا من الجبهة بعد انهيار الجيش العثماني. رغم أن شخصية “مختار نعمة” لا تتطابق مع نوري السعيد، فإن التشابه يكمن في رحلة العودة الشاقة مشيًا. ومع ذلك، فإن الرواية تقدم شخصية مختار كبطل خيالي خاض تجربة الحرب والموت والإعاقة، ما يمنح الروائي مساحة تخييلية لصياغة الأحداث.
*الحكاية كرحلة سردية:
تتشكل الرواية حول محور الرحلة، التي تبدأ من تجنيد مختار قسرًا في قريته، ثم اقتياده إلى إسطنبول، ومن ثم إلى روسيا. يسرد مختار مراحل الترحال المؤلمة بواقعية تمتزج بالسخرية أحيانًا، وبالدهشة في أحيان أخرى.
“حندي عراقي في الجيش العثماني… بقي يقيني مصرا على وطن سعيد، حتى هلك، ولقي حتفه على يد اليأس.” (ص 7)
*الوصول إلى إسطنبول:
يتنقل مختار بالقطار ثم بالشاحنة، ويُفاجأ بأن وجهته النهائية هي إسطنبول، لا أحد أطراف بغداد كما كان يتوقع:
“نزهة طويلة جدًا… إسطنبول؟ لم أكن أتصور أننا ذاهبون إلى هناك!”
*إلى الحدود الروسية:
بعد فترة تدريب قصيرة، يُنقل مختار مع باقي الجنود إلى جبهة القتال عبر باخرة مكتظة:
“كنا نبحر إلى الحدود الروسية المتجمدة القاتلة… لم أكن أتخيل هذا الجبروت الثلجي!” (ص 14)
*عبثية الحرب وعدو غير متوقع:
يُظهر الروائي عبثية الحرب من خلال جهل الجنود بأسبابها، وقسوة النظام العثماني الذي يعاقب أي اعتراض بالإعدام. لكن العدو الأشد فتكًا لم يكن الروس بل “الثلج”. الجنرال الأبيض الذي لا يُقهر، والذي ساهم في هزائم نابليون وهتلر، ها هو يعيد الكرّة مع العثمانيين.
“الثلج يهطل بهدوء خبيث، كأنه شرير يدرك المأزق الذي ينتظرنا.” (ص 18)
*كارثة البحيرة المتجمدة:
تبلغ المعاناة ذروتها عندما يُجبر الجنود على عبور بحيرة متجمدة، رغم تحذيرات مختار للضابط، الذي يرد عليه بالضرب والإهانة. لكن تحذير مختار يتحقق، إذ تنهار البحيرة وتبتلع الجنود والمدافع في مشهد مأساوي مرعب.
“انكسرت البحيرة… ابتلعت العشرات بصمت القاتل.” (ص 22)
*الخاتمة:
جنود السلطان الأخير ليست مجرد رواية تاريخية، بل سردية إنسانية عميقة تتناول الحرب من منظور الضحية لا المنتصر، وتكشف عبثية القتال حين يُقتاد الإنسان إلى الجبهات دون هدف واضح أو مبرر. ينجح الروائي”رعد أبو الطين الحلي” في تحويل معاناة فردية إلى ملحمة روائية تنبض بالرمزية، وتعكس صراع الضعف أمام القوة، والإنسان أمام الموت والبرد والخذلان. الرواية تفتح الباب أمام قراءات نقدية أوسع، وتأملات في مصير الشعوب حين تُساق إلى معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل.
إرسال التعليق