جاري التحميل الآن

لعبة الصراع الأيديولوجي بين المركز والهامش في رواية “البدلة البيضاء للسيد الرئيس”

لعبة الصراع الأيديولوجي بين المركز والهامش في رواية “البدلة البيضاء للسيد الرئيس”

قراءة / حيدر جمعة العابدي

تتميز رواية “البدلة البيضاء للسيد الرئيس” لعلي لفته سعيد، الصادرة سنة 2021، بأسلوبها الفني والفكري، وهو ما يضفي على العمل تواشجًا وانسجامًا بين الأبعاد الرمزية: العنوان، الشخوص، المكان، وأحداثٍ واقعيةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، سلّطت الضوء على أهم القضايا التي أسهمت في تشكيل العراق الجديد، ودلالات تحوّلاته وترسّباته التاريخية وأسبابها.ومن العتبة الأولى لعنوان “البدلة البيضاء للسيد الرئيس”، يضعنا الكاتب أمام رمزيةٍ قويةٍ طالما ارتبطت صورتها اجتماعيًا بدلالة الصراع بين المركز، مقابل الأطراف في بلدٍمثل العراق، وهي صورة البدلة البيضاء التي تمثّل النفوذ والسلطة أو المكانة الاجتماعية. وتكتمل هذه الدلالة بعنوانٍ ثانوي للسيد الرئيس، في إشارةٍ واضحةٍإلى مواقع القوّة والقرار، لمن يرتدي هذه البدلة، بغضّ النظر عن قيم هذا الشخص وخلفيته الفكرية والاجتماعية. وهو ما يكشف عن طبيعة الصراع بين القيم الأخلاقية السائدة وتمثّلاتها على أرض الواقع، وبين من يسعى للسيطرة واستغلال هذه القيم للوصول إلى السلطة ومراكز القرار، بطريقة النفاق والانتهازية على حساب الآخرين ومبادئهم، والتخلّي عن أقرب الناس إليهم.تتطوّر الحبكة، والتي أطلق عليها السارد كفصلٍ أوّل “قبل الرواية”، بتوجيه الرؤية الساردة، إلى بؤرة حياة مدلول من الداخل. مدلول، وهو طفلٌ يتيم الأم، لم يبلغ بعد، ينتابه شعورٌ غريبٌ حول ما يجري حوله من أحداثٍ وسط المكان والحي الذي ولد فيه، حيث يضطر الأب، الذي كان يعمل في معمل للطابوق والنفط الأسود، إلى الزواج من شكرية، المجهولة الجذور الاجتماعية، وهي شابّة جميلة، لكي ترعى ابنه مدلول.يأخذنا الراوي العليم في جوّ ساحرٍتتخلّله تداعيات وتحوّلات نفسية دقيقة وعميقة لشخصية مدلول، الذي وجد نفسه مذهولًا، لا حول له ولا قوّة، بين أسرار النساء ومفاتنهن، التي تمثلت في الخيّاطة أم ساهي، التي كانت صديقة زوجة أبيه شكرية. كانت أم ساهي تأتي كلّ يومٍ لخياطة فستان شكرية الجديد، وتتغزّل في مفاتن جسدها وأنوثتها الطاغية، أمام مسمعٍ ونظر مدلول، وهو يتفحّص مفاتن جسدها بدقّة عين الكاميرا. وهو ما أعطى السارد فضاءً رحبًا لكسر جو رتابة السرد والمتوقّع، حيث تمكّن السارد من التغلغل عميقًا خلف كواليس هذه الأسرار، مستعينًا بتقاناتٍ فنيةٍ كالوصف بطريقة الكاميرا، وتداخل الزمن، وتشظّي الأحداث، كاشفًا في الوقت نفسه عما يدور خلف جدران حياة، كانت ولا زالت مغلقةً خلف أسرارها المسكوت عنها، وخفايا مهنة الخياطة، والخلفية الاجتماعية للشخصيات التي تتمحور حول أم ساهي. حيث كان مدلول يكبر وينضج مع كلّ حدثٍ مهم، ليدخل في جدليةٍ نفسيةٍ عميقةٍ، بين ما يسمعه من تعاليم ونصائح والده التي تحثّهعلى المضي قدمًا، وألّا يلتفت للماضي، وبين ما يكتشفه عن أسرار أم ساهي وشكرية ودفء مشاعرها، يعيش صراعات داخلية كبيرة وصعبة ومتناقضة تنمو فيه، ويتعلّم منها كيف تُدار الحياة، لتكتمل تضاريس شخصيته وتناقضاتها اليومية، في بحثه عن إجابات عمّا يدور حوله من أحداث وتحولات اجتماعية وسياسية. فكان لوجود مقهى عمروش الدور الأكبر في فهم طبيعة الصراع الدائر، وكيفية التحول من الهامش إلى المركز، ونسيان حقبةٍ مليئةٍ بالتصدّعات النفسية والاجتماعية، خصوصًا بعد فقد أمّه ثم أبيه، وازدياد شعوره بالوحدة والعجز التام أمام تحديات الواقع، في ظل غياب مرجعياته التي لم يظلّ منها سوى صورة لرجل يقف ببدلته البيضاء، لتشكّل بوصلته للوصول.ليتحوّل بعدها مدلول من طفلٍ يتيم، غارق وسط مخاوفه ورغباته المكبوتة، إلى مشاركٍ مهم في تحوّلات الواقع وتداعياته السياسية والاجتماعية، وهو ما أطلق عليه الكاتب كفصلٍ ثان “بعد الرواية”، الذي استُؤنف زمنها السردي بضمير الغائب (هو)، في إشارةٍ سرديةٍ ذكيةٍ للانعتاق من استخدام ضمير الأنا والأنت، اللذين يشيران غالبًا إلى فعل التورّط، وانتماء أنا السارد إلى أحداث الرواية، لذا، في بيداء السرد، يقول: “ما عليَّ أن أحكيه وأحدثّكم وأرويه لكم الآن… أحاول جعل الأمر أكثر مقبولية لما كنت عليه وما صرت إليه وما أنا عليه وفيه” (ص 75.

تحولات المركز

تبدأ التحوّلات عندما ينتقل مدلول إلى العيش في بغداد مع خاله، الموظّف الحكومي الذي كان شيوعيًا في البداية، ومع سيطرة حزب البعث أصبح بعثيًا. لم يتعرّف عليه مدلول إلّا بعد وفاة والده، إذ كان مقاطعًا لزواج أم مدلول من والده. الخال، الذي ساعد مدلول على إتمام تعليمه، ضمّه إلى تنظيمات حزب البعث، فأصبح شخصًا مهمًا في الحزب، وتبوّأ مراكز متقدّمة، من خلال تملّقه وتقرّبه من شخصيات القرار السياسي، الذي ارتبط في مخيّلته منذ الصغر بصورة السيد الرئيس، الذي يرتدي البدلة البيضاء، في إشارة إلى القوّة والنقاء اللذين كان يفتقدهما في صغره. فأخذ يحضر المناسبات المهمة، ويشارك ويهتف باسم الرئيس في التظاهرات، وينقل ويبلغ عن الأشخاص الذين يعارضون الرئيس سياسيًا.

لكن كانت ردّة فعل الخال عكسية، إذ رفض هذا الأسلوب القذر للصعود وتحقيق المكاسب الشخصية، وتعويض حالة النقص التي كانت ملازمة لشخصيته. لذا، نصحه خاله بالابتعاد عن تأثير الماضي عليه، والانتباه لما هو قادم، فلا سلطة تدوم طويلًا، وإن كيفية وصول الرئيس إلى السلطة، وكيفية الحفاظ عليها، تبدأ باستخدام مختلف الطرق وبكل الوسائل المتاحة، بما فيها العنف النفسي والبدني، وقمع الحريات والأصوات المعارضة، كدليل على وحشية هذه السلطة وضعفها، خصوصًا بعد أن أُنهِكت بفعل القرارات السياسية الخاطئة، ودخولها في حروب مجانية لا طائل منها.كل ذلك دفع مدلول للعودة إلى مدينته القديمة، وإلى صورة مدلول الطفل، فعاد بعد غياب 22 عامًا، وصورة الرئيس والبدلة البيضاء كانت قد تهشّمت داخله، بفعل سقوط المركز والرئيس. فقد كانت عودته قد أعادت طرح الأسئلة عن حقيقة ما يجري من تداعياتٍ وتصدّعاتٍ وجوديةٍومجتمعية، وكيف تتشكّل السلطة والمال اللذان يصنعان هذا الانقسام، ويؤسّسان لعلاقةٍ قمعيةٍ بين المركز والهامش، وهو ما أسهم في زيادة الحرمان، وتدنّي روح المواطنة، مما مهّد لاحقًا لصعود تياراتٍ سياسيةٍ أكثر تطرفًا ودموية.لقد كشفت عودته لمدلول الإنسان العراقي البسيط، القادم من الهامش بحلم ارتداء بدلة الرئيس والسلطة، والتي سرعان ما تحوّلت إلى رغبةٍ حارقةٍ لفكّهذا الحلم، والانعتاق من كلّ شيء يمدّ أيّ صلةٍ بها. فكان خيار العودة إلى الوراء، إلى البدايات الأولى، هو نهاية انعكاس صورة السلطة:

“صعدتُ على كتف أحد الشباب من الجيل الجديد وهتفتُ: بالروح، بالدم، نفديك يا عراق، فيما كانت صورة البدلة البيضاء تخرج من الحقيبة المعلقة على كتفي الأيسر، هاربة إلى الحديقة الدائرية، وقد تآكلت أطرافها، وتغيّر لونها، حتى لكأنها بدلة بلا لون.”

إرسال التعليق