جاري التحميل الآن

صورة روائية مصغرة لعواقب جمهورية ترامب في ‘مصنع الأحذية’

صورة روائية مصغرة لعواقب جمهورية ترامب في ‘مصنع الأحذية’

محمد الحمامصي

انهيار الحلم الأميركي

تُعد رواية “مصنع الأحذية” للروائي الأميركي جيفري لويس انعكاسًا حقيقيًا لتوترات المجتمع الأميركي على المستوى الاقتصادي والسياسي والإنساني في الوقت الراهن عكس ما نراه عادة في أفلام هوليود. حيث تصور تدهور أوضاع المجتمع الأميركي، وذلك من خلال رصد مخاوف وأسرار أهل مدينة صغيرة في مواجهة تقلبات أوضاعهم المعيشية وتراجع القيم وتشوهها، لتشكل بالنهاية صورة إنسانية للتردي والانهيار الذي تمضي إليه أميركا، وهي رؤية لجمهورية ترامب في صورة مصغرة على الرغم من عدم ذكر الكاتب له في الرواية.

الرواية التي ترجمها إلى العربية محمد عثمان خليفة، وصدرت عن دار العربي، نُشرت الرواية الأصلية في عام 2018 تحت عنوان “بيلبورت.. حكاية مدينة” ورُشحت لجائزة ولاية “مين” الأميركية الأدبية في عام 2019. حيث تثبت أنه بالإمكان انتزاع قصص خيالية آسرة، غريبة، مضحكة، ومدهشة، مبنية على الشخصيات الواقعة تحت تأثير من الانهيار الصناعي المُدمر.

تدور الأحداث عن رجل الأعمال “روجر كيسينجر” الذي يتوقف عند أحد محلات البضائع المستعملة، ويعجب بحذاء جلد عريق من إنتاج أقدم مصانع أميركا للأحذية الرجالي، مصنع أحذية “نورومبيجا”، فيقرر شراء ذلك المصنع الذي كان قد أعلن إفلاسه وعرض للبيع. في البداية، كان سكان المدينة متفائلين بحذر: إذ يبدو أن كيسينجر، مهتمٌّ حقًا بالعمل – ولا ضير في منحه موظفي المصنع زيادةً لبدء هذه الحقبة الجديدة من العمل. لكن الحقيقة أنه سوف يمضي بالمصنع نحو نهاية قاتمة واضحة للعيان.

مصنع أحذية “نورومبيجا”، لا يوفر فقط فرص عمل لسكان مدينة بيلبورت بل يساهم في تعزيز تثبيت وبقاء هويتهم. ومن هنا يرسم الروائي صورة مصغرة من خلالهم لتأثير الرأسمالية على مختلف الطبقات في أميركا في القرن الواحد والعشرين. فالرواية تمثل انعكاسًا كبيرًا لما يحدث في أميركا الآن، أميركا المختلفة عما نراه في الأفلام أو ما يصدر لنا من هوليوود غالبًا. فمدينة “بيلبورت” مثال حقيقي لواقع المجتمع الأميركي، وليس ما نتصوره عن أميركا عادة. وإذا كان هذا ما يصوره لنا الكاتب الأميركي، فما الصورة الحقيقية إذن؟ أهي أكثر قسوة؟.

تنطلق الرواية من سباق بيلبورت للسيارات، وهو حدث سنوي جذَّاب يقام خلال الصيف في أرض المعارض القديمة بالمدينة، حيث تُشاهد بطل الرواية “جاري هتشينز” وهو يُدَمِّر سيَّارات الآخرين. وهو ما ينتظره الجمهور كله؛ فهم يعرفون عدد الأعوام التي بقيت خلالها سيَّارة “جاري” “اللينكولن” صامدةً، بينما احتضنت ساحات الخُردة رُفات عديد من السَّيَّارات الأخرى التي حاولت الفوز، بطُرُز مُتنوِّعة بين “أولدزموبيل”، و”كرايسلر”، و”شيفروليه”. قيمة الجائزة الأولى خمسمائة دولار. ولا يعني هذا أن “جاري” فاز بكل السِّباقات، ولكنه حتى إن حلَّ في المركز الثاني أو الثالث في النهاية، فإن حالة سيَّارته لم تكُن تحتاج إلا لزيارة قصيرة إلى السَّمكري ومجموعة إطارات جديدة، تحضيرًا للسِّباق المُقبل.

يُمثّل السباق فرصةً للترويح عن النفس بعد بيع المصنع الذي تم تأسيسه 1903، والذي لطالما وفّرت سمعته، في إنتاج أحذية عالية الجودة، الحصة الأكبر من فرص العمل في المدينة. نلتقي  في السباق بـ “جاري هتشينز”، وبعد ذلك بوقت قصير شقيقه ومنافسه، بيلي، الذي عاد مؤخرًا من الساحل الغربي، وهو مغامر مسرف يتسم بالجشع والطمع وعدم الاكتراث بالعواقب، كما أنه يعد أسوأ سارق لأصول الشركات. بالإضافة إلى والدهما إيرل، الذي يهدد إدمانه المتزايد على الكحول ليس فقط وظيفته في المصنع، بل ودوره كحارس أساسي للذاكرة المؤسسية العملية لمصنع نورومبيجا.

تُعرّف الرواية بتفاصيل الحياة اليومية في المدينة وتلقي الضوء على السكان والمتاجر والمؤسسات المحلية، بدءًا من متجر “بيج جيم” للبضائع الفائضة والإنقاذ، وصولًا إلى اجتماع ساعة الإفطار اليومي في مطعم ماكدونالدزالمحلي، حيث يناقش سكان المدينة عجزهم في مواجهة التطورات التي تهدد صناعتهم. ومن ثم تكشف هذه الفصول تردي الأوضاع الاقتصادية في أواخر العصر الصناعي وما بعده، وكذلك التمييز الجغرافي الرئيسي بين المناطق الصناعية ومناطق السكن العمالية في المدينة والجزء المعروف باسم “الجزيرة”، الذي يمثل منطقة عطلات فاخرة للزوار الموسميين الأثرياء القادمين من مناطق أخرى.

وعلى الرغم من التصوير العاطفي والكوميدي أحيانا لأشخاص المدينة البسيطين والصادقين، تكمن تيارات خفية أكثر قتامة. حيث تتناول القصة الانتشار الواسع لإدمان المخدرات، والخيانة الزوجية، والأسلحة، وقوة الجشع المدمرة التي يمثلها رجل الأعمال “روجر كيسنجر” وزوجته، فضلا عن غرفة الدردشة الإلكترونية التي يسيطر عليها من يصفون أنفسهم بـ”جنود الشتاء”، وهم جماعة من الوطنيين من جميع أنحاء البلاد، وتتداول نقاشاتها نظريات المؤامرة العنصرية..

مقتطف من الرواية

ألقى “كيسنجر” خُطبة من قبل ذات مرَّة، فقد وقف أمام موظفي شركة اشتراها، ورحَّب بهم، أو قدَّم لهم نفسه، أو أيًّا كانمقصده من ذلكحتى إنه علَّق على هذا الخاطر أمامهم؛ مَن الذي يفترض أن يُرحِّب بالآخر؟ فضحك موظفو الشركة، وشعربأنه اقتنص نجاحًا في أول بادرة.

هذه خطوات لا بد منها؛ أن يتحرك هنا وهناك في أرض المصنع، ومن ثم وقف وشمَّر عن ساعديه بكل جدية، وهو يحب ذلك،ويحب أن يتشبَّه بالسياسيينعلى أنه يعرف ما يقوله أطباء النفس عن السياسيين في برامج الـ”توك شو”، وكيف أنهم أشدالبشر احتياجًا للإحساس بمحبَّة الآخرين لهم.

لاحظ أن هناك شخصين حضرا متأخرين بينما كان يتحدث، وخلاف ذلك، كان الجميع هناك، الموظفون والعمال، منتشرينبين الماكينات القديمة التي تفوح منها رائحة الشحم والزيوت، والتي كان يراها لأول مرَّة، وبدأ يغرم بهاأحب أن المبنى بأكملهيمتلئ برائحة الصناعة.

بناء المصنع قرميدي قديم، به نوافذ طويلة عريضة، ومدخنة وحيدةلم تكُن مساحة المصنع كبيرة، فإطلالته على النهربالكاد تمتد قرابة النصف كيلومتر، ولكنها كانت كافية ومناسبة، أو هكذا وجد “كيسنجر”من أين له أن يعرف المساحةالمناسبة؟ فهو لا يعرف سوى أن عمر المصنع يناهز مائة عاميتدفَّق النهر أسفل النوافذعانت مياهه في الماضي من التلوثبسبب المصنع، حتى تدخَّلت جهات البيئة، وأجبرت عديدًا من المنشآت على الامتثال لضوابطها، أو أن تغلق أبوابهاكان مزاج“كيسنجر” طيبًا، كما العهد به دائمًا، لا يُلقي بالًا لتجارب الفشل التي قد يعايشها مَن حوله، طالما أنه بمنأى عنهايعجبه اليومأن مياه النهر نظيفة، وأن نوافذ المصنع طويلة، وأن المصنع لا يبعد عن منزله الصيفي سوى ثلث الساعة بالسيارةوإننجحت التجربة، فإن ذلك يعني مزيدًا من الوقت يقضيه في الجزيرة.

انتظر عماله، عفوًا شركاؤه، بحذر وهم يترقبون كلمتهربما لن يعرف أبدًا معظم أسمائهم، لكنهم يقفون أمامه جميعًا؛ كأنهمفي أول أيام معسكر، أو مدرسة، بينما يتولَّى أحدهم رفع العلمعلى وجه كل منهم تعبيرات مُتباينةلو أن “كيسنجر” أمعنالنظر فيهم، لأدرك أنه بصدد خوض غمار تجربة مشوقة ومثيرة للفضول.

أخذ المتأخران مكانيهما في مؤخرة الصفوفيتذكَّر أنه صادف أحدهما، الأضخم جُثَّة، بالفعل، وأنه سمع شخصًا أو شخصينيذكرانه بخير، ولكنه لا يذكر الآن ذلك الكلامأما الرجل الآخر، الأنحف جسدًا والأكبر سنًّا، فلا يعرفه، ولكن من الواضح أنهمهمل في مظهره ونظافته الشخصية.

لم يكُن “كيسنجر” مُفوَّهًا لدرجة أن يخطب في جمع من الناس من دون ورقة مكتوبةربما لا يحتاج للرجوع إليها، ولكنوجودها بين يديه ضروري لطمأنينتهاستهلَّ كلامه بحكاية طريفة عن خُطبة ترحيبية سابقة له أمام موظفي إحدى الشركات،ثم أتبع الحكاية بأخرى عن زيارته لمتجر “بيججيم”، وعثوره على الحذاء المُريح، وكيف أن له منزلًا في الجزيرة، وهو ما شجعهعلى أن يستثمر في هذا المكان ويحوله إلى كيان ناجح.

كانت نبرة صوته ولكنته تخبران العمال بأنه بالتأكيد ليس من هنا، ولكن الثقة فيهم دليل قوي على أنهم بصدد تجربة ناجحةإنه يتحدث إليهم بكل راحة واعتياديةلم يكُن هناك من شيء ليُخفيه عنهمحتى إنهم كادوا يتأكدون تمامًا من أنه لا ينطق إلابالصدق.

من المؤكد أن تقييمه لحال صناعتهم كان صريحًاعليهم أن يكونوا مختلفين عن كل من في السوق، وأن يبتعدوا كل الابتعادعن صناعة الأحذية الرياضية التي هيمنت عليها النمور الآسيوية:  

ـ هناك فارق بين أن يكون لديكم منتج جيد، أو منتج فريد من نوعه، وبين أن يكون المنتج جيدًا وفريدًا من نوعه في آنٍ واحدٍ.

بدت عبارته في آذان العُمَّال المائة والتسعة والعشرين والواقفين على بلاط أرض المصنع أقرب إلى شعار رنَّان، ولكن عمالمصنع “نورومبيجا” للأحذية يريدون أن يصدقوا أنها تحمل من المعاني والمخططات ما يتجاوز مجرد الشعارات.

وربما كان الأمر كذلكفلو لم يكُن كذلك، فهل كان مُجبرًا على التَّفوُّہ به؟

ـ أصدقائي؛ وأملي أن نكون أصدقاء، وهو ما يعني بالنسبة لي أن نكون في خدمة بعضنا بعضًاأصدقائي، تنوي مؤسسة“مادريجال” الاستثمار في هذا المكانوأول خطوة استثمارية في أي مكان، وأي نشاط هي أن نستثمر في البشر؛ في العمالوالموظفينلذلك، أعلن اليوم عن خطة ربما يصفها بعضكم بأنها حمقاء وباهظة التكاليف وغير مناسبة لطبيعة العمل هنا،ولكنني سأنفذها على أي حال.

وتابع:

ـ أعرف أن عديدًا منكم مرَّ بأوقات عصيبةولن أعدكم اليوم بأن تلك الفترة قد انقضت، بل ربما تكون هذه مجرد بداية لفترةأخرى صعبةسنحتاج إلى كل قطرة عرق من الجميع، ولكن في ضوء تلك الحقيقة، أعتقد أنه من العدل أن ينال كل شخصيُوجد هنا، في هذا المكان، واعتبارًا من اليوم، علاوة عشرة في المائة من راتبه الأساسيما رأيكم يا أصدقاء؟

لم يعرف إن كان السبب هو الدهشة، أو عدم التصديق، لكنه لم يجد رد الفعل الطبيعي الذي توقَّعهوفي البداية صفَّقالبعض، ثم أخذ عدد المُصفِّقين يتزايد لحظةً تلو الأخرى، مثل بدايات المطر، إلى أن اطمأنَّ قلبه لمَّا ضجَّ أرجاء المصنعبالتصفيق الحار الصادق، والطويل.

شعر “كيسنجر” بالرضا عن نفسهكانت بالنسبة له خُطبة مثل خُطب عديدة أخرى ألقاها هنا وهناك، ولكنه وجد أن أداءهيتحسَّناختيار التوقيت المناسب والعبارات التي تصعد بالإيقاع إلى أن يصل إلى ذروته، ولكن الغريب هذه المرَّة أنه كانصادقًا بالفعل في كل كلمة نطق بهاوكم شعر بالفرحة عندما لمح الدموع تترقرق في أعيُن العاملات اللاتي شاب شعرهن فيهذا المكانإنه بالفعل في حاجة إلى الإحساس بأنه محبوب.

طوى الورقة التي لم يكُن بحاجة إليها في نهاية المطاف، ودسَّها في جيبهوخلال حفل الاستقبال الذي أعقب الكلمة، وقبل أنيذهب كل إلى عمله، صافح “كيسنجر” عديدًا منهمتدافعوا نحوه لمُصافحته أو رؤيته عن قُربومرَّة أخرى، يشبه“كيسنجر” السياسي، الذي يُصرُّ على مُصافحة الأيادي المُمتدَّة إليه حتى والقطار يتحرك مُغادرًا المحطةصعد الدَّرَج إلىحيث المكاتب، وأتباعه من خلفهوفي الأسفل، عاد ضجيج وأزيز خطوات التصنيع، كما لو أن فرقة موسيقية تُعاود العزفبعد انقطاعحرص “جاري” على ألا يكون “إيرل” من بين الحريصين على مُصافحة الرجلنجح في صرف انتباه والده، الذيلم تتخلَّص رائحة أنفاسه بعد من عبق العصير العطن، وشغله في دردشة تافهةسيجد لحظة أكثر مُلاءمةً ليقدم خلالها كبيرالعمال إلى رئيسه الجديد.

إرسال التعليق